رام الله 7-10-2025 وفا- بعد مرور عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تتجلّى ملامح أعمق لإحدى أبرز صور الإبادة الثّقافية في العصر الحديث، فلم يقتصر الدمار على المباني أو البنية التحتية المادية فحسب، بل امتد ليطال الذاكرة الجماعية، والهوية الوطنية، والمشهد الثقافي بكافة مكوناته.
فقد أحرقت المكتبات، ودُمّرت المتاحف، وسُوّيت المراكز والمؤسّسات الثقافية بالأرض، وتحوّلت مؤسسات الذّاكرة والتعليم والفنون إلى ركام، في مشهد يعكس استهدافًا ممنهجًا للبنية الثقافية والمعرفية الفلسطينية، ويشير إلى محاولة متعمدة لمحو التاريخ والهوية الثقافية للشعب الفلسطيني.
ورصدت المكتبة الوطنية الفلسطينية آثار الدّمار الذي لحق بالإرث الثّقافي في قطاع غزة خلال عامين من الحرب، الّتي خلّفت تدميرًا واسع النّطاق، وأسفرت عن ما يزيد على 67 ألفًا من الشهداء ونحو 170 ألفًا من الجرحى، وتعرّضت فيها البنيّة التّحتيّة، بما فيها المعالم الثّقافيّة والمؤسّسات التّعليمية والفنّية، لدمار شامل طال جوهر الحياة الثّقافية في القطاع.
استراتيجيات الطّمس وسلب الهويّة
تنتهج سلطات الاحتلال استراتيجيّات ممنهجة لطمس الثّقافة وسلب الهويّة الفلسطينيّة، ولا تُعدّ هذه الإجراءات مجرّد آثار جانبيّة للصّراع، بل تمثّل سياسة استراتيجيّة تمتدّ جذورها إلى ما قبل عام 1948.
وتندرج هذه الاستراتيجيّات ضمن سياسات أوسع تهدف إلى استهداف الرّكائز الفكريّة والثّقافيّة للمجتمع الفلسطيني لإضعافه من الدّاخل، وزعزعة الرّوابط الاجتماعية، وتقويض هويّته الوطنيّة.
وفي هذا السياق، يُعدّ استهداف الاحتلال للمراكز الثّقافيّة والفنّيّة والتّعليميّة، بالإضافة إلى المعالم الأثريّة والدّينيّة في قطاع غزّة، أداة لتحقيق أهداف سياسيّة واضحة.
فهذه المراكز ليست مجرّد فضاءات للإبداع والفكر، بل تشكّل أدوات رئيسيّة للتّعبير عن الذّاكرة الجماعيّة وصمود المجتمع أمام محاولات الاحتلال لإعادة تشكيل الهوية.
وبالتالي، فإن تدمير هذه المؤسسات يؤدي إلى تقويض قدرة المجتمع على الحفاظ على تراثه الثقافي ونقله للأجيال القادمة، ويسمح للاحتلال بفرض هيمنته والسيطرة على الشعب من خلال محو تراثه الوطني وإفراغه من معانيه الثقافية والسياسية.
مظاهر الإبادة الثقافية
يواجه التّراث الثّقافي والتّاريخي في قطاع غزّة الخطر الشّديد نتيجة الحرب والتّدمير والإبادة الثّقافية الممنهجة، الّتي تقود لمساعي الاحتلال الإسرائيلي في محو الهويّة والتّاريخ الفلسطيني وتقليص قدرة الأجيال القادمة على الوصول إلى تاريخهم؛ فقد استهدف الاحتلال البنية التّحتية الثّقافية في قطاع غزّة، من مراكز ثقافيّة ومتاحف ومسارح ومعارض ومعالم تاريخيّة وأثريّة ومكتبات عامّة وخاصّة وجامعيّة ومكتبات المدارس والمساجد والكنائس ودور نشر ومطابع ووزارات.
وطال الدّمار ثروة من الكتب النّادرة والمخطوطات والوثائق التّاريخية والأرشيفات الخاصّة والإدارية، والمواد السّمعية والبصريّة والتّجهيزات ووسائل الحفظ اليدوي والإلكتروني وسجلّات الطّابو والسّجلات المدنيّة والمقتنيات والقطع الأثرية التّاريخية.
استلاب الذّاكرة الفلسطينية
استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية جميع المتاحف في قطاع غزة، ومن أبرزها المتحف الوطني في "قصر الباشا"، وهو أثر مملوكي، تمّ تحويله إلى متحف في عام 2010، وكان يضمّ عشرات آلاف القطع الأثريّة، ومتحف دير البلح التّابع لبلدية المدينة، ومتحف رفح، ومتحف القرارة، ومتحف الفندق، وغيرها من المتاحف التي دمّرت مقتنياتها أو سرقها جنود الاحتلال وقاموا بتصويرها عقب نقلها إلى المتاحف الإسرائيلية.
كما وشهد قطاع غزة إبادة جماعية ثقافية خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، حيث دمّرت آلة الحرب الإسرائيلية عشرات المكتبات العامة والخاصة والجامعية والتّاريخية، بالإضافة إلى المطابع ودور النّشر، وأبرزها:
مكتبة المسجد العمري الكبير التي تضمّ (230) مخطوطة تاريخية نادرة، تعرضت للقصف والحرق وبقي منها 38 مخطوطة فقط.
مكتبة غزة للثقافة والنور التابعة للكنيسة المعمدانية التي احتوت على (20,000) كتاب، وتعرّضت للقصف
مكتبات الجامعات الفلسطينية التي لم تسلم من القصف، مثل مكتبة جامعة الأقصى، مكتبة جامعة الإسراء، ومكتبة الجامعة الإسلامية، التي فقدت أكثر من (240,000) كتاب ومرجع.
مكتبات البلديات والمؤسسات الثقافية، ومنها مكتبة بلدية غزة، ومكتبة بلدية خان يونس، ومكتبة ديانا تماري صباغ، ومكتبة حيدر عبد الشافي، التي كانت تضم عشرات الآلاف من الكتب قبل تدميرها.
وطال الدّمار الأرشيف المركزي في غزة، الذي يحتوي على مبانٍ ووثائق تاريخيّة قديمة عمرها أكثر من (150 عامًا)، إضافة إلى الأرشيف المركزي للمدينة وخرائط ودراسات هندسية ودوائر التحكم والمراقبة لآبار المياه وشبكات الصّرف الصّحي.
إلى جانب سيطرة قوّات الاحتلال على مخزن آثار غزّة، حيث نشر مدير هيئة الآثار الإسرائيليّة لصور له ولفريقه من المخزن، والذي يحتوي على آلاف القطع الأثريّة، الّتي تعود إلى حقبات زمنيّة تتراوح ما قبل 3 آلاف سنة قبل الميلاد، إلى القرنين السّابع والثّامن الميلادي وحتّى بداية العهد الإسلامي المبكّر.
كما دمّرت عشرات المراكز الثّقافية والمسارح، منها: مركز رشاد الشّوا الثّقافي وهو أكبر مركز ثقافي في قطاع غزّة، ويحتوي على وثائق وكتب ومخطّطات تاريخيّة، والمركز الثّقافي الأرثوذوكسي، وجمعية حكاوي للمسرح وجمعية ومسرح الوداد، وغيرها.
استهداف المعالم الأثريّة والدّينيّة
امتدّ الدّمار إلى مئات المباني التّاريخيّة، فقد تضرّر ما لا يقلّ عن (226) موقعًا أثريًا في قطاع غزّة، منها تدمير بيت السّقا التّاريخي وهو من الفترة العثمانيّة، وبيت سباط العلمي والذي يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، والمدرسة الكاميلية، وحمام السّمرة الذي كان آخر الحمّامات العثمانيّة في غزّة، كما تمّ قصف المشفى المعمداني وهو بناء تاريخي شيّد في عام 1882، وميناء البلاخية، علاوة على استهداف موقع تلّ العجول الّذي يمثّل تاريخ غزّة في العصرين البرونزي الوسيط والمتأخّر، ودير القدّيس هيلاريون والّذي تعرّض لغارة جوية أدّت إلى تدمير جزء منه، وهو من أقدم أديرة الشّرق الأوسط.
إلى جانب قصف الاحتلال بالقذائف الموجّهة لأربع كنائس قديمة تُعتبر رموزاً حضاريّة مهمّة في فلسطين، من بينها كنيسة القدّيس برفيريوس، أقدم كنيسة في غزة وثالث أقدم كنيسة في العالم، وكنيسة المعمداني ومشفاها، وقصف وتدمير أكثر (1000) مسجدًا تدميرًا كليًا أو جزئيًا، من بينها المسجد العمري في غزّة وهو أحد أهمّ وأقدم المساجد في فلسطين التّاريخيّة، ومسجد السيد هاشم، ومسجد عثمان قشقار الأثري، كما ودمَّر (8) مقابر بشكل كامل، من بينها تجريف مقبرة بيت حانون ونبش (600) قبر فيها، والمقبرة الرّومانية والّتي تعود إلى نحو 2000 عام، وكانت تضمّ مجموعة توابيت مصنوعة من الرّصاص، ومقبرة دير البلح التي يعود تاريخها إلى العصر البرونزي المتأخر.
استهداف التّعليم
إنّ استهداف الاحتلال للقطاع التعليمي بكافّة عناصره في غزة يُعدّ من أبرز مظاهر الحرب المستمرّة، فقد استشهد نحو (18 ألف طالب وطالبة) و(1500) طالب جامعي، و(750) معلم ومعلمة، وأكثر من (230) أستاذًا جامعيًا، وتأثّرت المدارس والجامعات ورياض الأطفال بشكل كبير جرّاء القصف والتّدمير، ما أدّى إلى تعطيل الدّراسة وتضرّر البنيّة التّحتيّة التّعليميّة منذ بدء الحرب، فتضرّر نحو 95% من المدارس والجامعات، وبذلك فقد حرم أكثر من (650) ألف طالب وطالبة التعليم.
بين القتل والتّشريد وفقدان المنصّات
إنّ استهداف الأكاديميّين والفنانين والعلماء والصّحفيين في الحرب يمثّل تهديدًا خطيرًا على مستقبل المجتمع الفلسطيني في غزّة، حيث يُعتبر هؤلاء الأشخاص حاملين لمعارف وخبرات فكريّة وثقافيّة تعزّز النموّ والتّقدم، وإفقادهم لمنصّاتهم وأدواتهم الفكريّة والإعلاميّة والفنّية بفعل الإبادة والتّهجير قد يؤدي إلى إضعاف البنيّة الثّقافية والعلميّة.
ومنذ بدء حرب الإبادة؛ قتلت آلة الحرب الإسرائيلية أكثر من (150) من العلماء والأكاديميّين وأساتذة الجامعات والباحثين، علاوة على استشهاد نحو 254 صحفيًا، واستشهاد عشرات الكتّاب والشّعراء والفنّانين.
تدمير الحرف اليدويّة والأعمال الفنّية التّراثية
إلى جانب فقدان الأعمال الفنيّة التي كان يحتفظ بها أصحابها في منازلهم الّتي دمّرت، فقد تضرّرت العديد من ورشات ومتاجر الحرف اليدويّة والشّعبية التي تشتهر بها غزة، كالتّطريز وصناعة الخزف وصناعة الفخّار والخيزران، وتعدّ هذه الحرف جزءاً لا يتجزّأ من التّراث الثّقافي والهويّة الوطنيّة، بالإضافة إلى كونها مصدرًا أساسيًا للدخل لكثير من سكّان غزّة.
جهود الإنقاذ وإشكاليّات حماية الترّاث الثّقافي
وفي ظلّ الحرب المستمرّة منذ عامين؛ تعيش الحالة الثّقافية في قطاع غزة ضمن تحديات لإعادة بناء المشهد الثقافي من جديد واستئناف الأنشطة الثقافية، ومنها صعوبة استرجاع المفقود أو المسروق، وفقدان الكفاءات البشريّة التي كانت تشكّل العمود الفقري لهذه المؤسسات، بفعل الاستشهاد أو التهجير أو النزوح، وانعدام الأمن وتعطّل البنية التّحتية الذي يعيق أي جهد في إعادة البناء، بالإضافة إلى تحديات التنسيق مع الجهات الدولية والمحلية المانحة، واعتماد المؤسّسات الدّولية على المتابعة عن بُعد للصور الساتلية، لتقييم الأضرار نظراً إلى استحالة إجراء تقييم ميداني في ظل الظروف الراهنة.
وتطالب المكتبة الوطنيّة المجتمع الدّولي بضرورة توفير الحماية للتّراث الثّقافي الفلسطيني الموجود في قطاع غزّة، انطلاقًا من مبدأ ملكيّة الممتلكات والأعيان الثّقافية للإنسانيّة جمعاء، وأنّ الاعتداء عليها يشكّل اعتداءً على كلّ شعوب العالم، داعية إلى الالتزام باتفاقية لاهاي لعام 1954، التي تمنع تدمير وإلحاق الضّرر بالتّراث الثّقافي في النّزاعات المسلّحة.
ــــــــــ
س.ك