بيت لحم 28-8-2025 وفا- قال معهد الأبحاث التطبيقية - القدس "أريج"، إن بلدة سبسطية شمال غرب نابلس، تشهد منذ تولي حكومة الاحتلال الإسرائيلي الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو في كانون الأول/ يناير 2022، هجمة استعمارية ممنهجة تستهدف هويتها التاريخية والأثرية.
وأضاف المعهد في تقرير، اليوم الخميس، إن موقع سبسطية الذي يعد أحد أقدم المدن الكنعانية والرومانية في فلسطين، تحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين الرواية الفلسطينية الأصيلة التي تؤكد عراقة البلدة وهويتها العربية، وبين محاولات الاحتلال المتسارعة لفرض رواية توراتية مزعومة.
وأشار إلى أن هذه الهجمة بدأت بخطوات مدروسة للاستيلاء على الموقع الأثري، مرورا بإنشاء طرق التفافية استعمارية، وصولا إلى مشاريع تهويدية واسعة تحمل عناوين "تطوير السياحة" و"الحفاظ على التراث اليهودي"، بينما جوهرها هو تغيير الطابع التاريخي وفرض "السيادة الإسرائيلية على البلدة".
ولفت المعهد إلى أن سبسطية تقف كواحدة من أبرز الشواهد التاريخية في فلسطين، إذ تعود جذورها إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، وتضم آثارا رومانية وبيزنطية وإسلامية ما زالت قائمة حتى اليوم، من بينها المسرح الروماني، والأعمدة الحجرية، والقصور القديمة، والجامع الكبير الذي يعرف بمسجد النبي يحيى، ما جعل البلدة مرشحة للانضمام إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو، غير أن الاحتلال الإسرائيلي حال دون ذلك عبر سلسلة من الممارسات الممنهجة.
وأوضح، أنه خلال السنوات الأخيرة، تحولت سبسطية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين سكانها الفلسطينيين والمستعمرين المدعومين من "الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال، إذ وثقت منظمات حقوقية ووسائل إعلام محلية ودولية اعتداءات متكررة شملت اقتحامات جماعية ينفذها المستعمرون، ورفع الأعلام الإسرائيلية فوق المواقع الأثرية، ومنع الفعاليات الثقافية الفلسطينية التي تنظم لإبراز الهوية الوطنية للبلدة.
كما عمدت سلطات الاحتلال إلى إجراء حفريات أثرية و"أعمال ترميم" بذرائع سياحية، لكنها في جوهرها محاولات لإعادة صياغة رواية تاريخية تزعم وجود جذور يهودية حصرية في المنطقة.
وأكد أريج، أن هذه الانتهاكات ليست مجرد أعمال فردية، بل تأتي في إطار سياسة رسمية تهدف إلى دمج سبسطية ضمن ما يسمى بـ"المسار التوراتي"، الذي يربط بين مواقع أثرية متعددة في الضفة الغربية تحت سيطرة الاحتلال.
وبهذا، تسعى إسرائيل إلى سلخ المكان من عمقه الفلسطيني، وتحويله إلى مقصد سياحي استعماري يخدم روايتها السياسية.
وقال "المفارقة أن ما يتعرض له الموقع الأثري في سبسطية يتقاطع مع سياسات التوسع الاستعماري التي تشهدها مناطق أخرى في الضفة الغربية، مثل إقامة مستعمرة جديدة في قلب الخليل (H1) ففي الحالتين، يعتمد الاحتلال على أدوات متعددة من الاستيلاء المباشر على الأرض، مرورا بالحفريات الأثرية الموجهة، وصولا إلى تغيير الطابع الديمغرافي والاجتماع.
وأضاف أن هذه السياسة المزدوجة تظهر أن الاستهداف الإسرائيلي لا يقتصر على الحاضر السياسي والجغرافي للفلسطينيين، بل يطال أيضا ذاكرتهم التاريخية وروايتهم الحضارية.
الطرق والبنية التحتية الاستعمارية:
أوضح أريج، أن أبرز ملامح التوسع الاستعماري في سبسطية بدء بأعمال شق طريق التفافية تخترق أراضي البلدة الزراعية، وتؤدي عمليا إلى تخريب أجزاء من الموقع الأثري الغني بالأعمدة الرومانية والمسرح التاريخي، مضيفا "رغم أن إسرائيل تبرر هذه المشاريع بأنها لخدمة حركة المستعمرين، إلا أن أهدافها الحقيقية تكمن في تعزيز السيطرة الميدانية على المواقع الأثرية الفلسطينية وضمها بشكل تدريجي، بما يربطها إداريا وجغرافيا بالمستعمرات المحيطة، مثل شافي شمرون".
مشاريع "التطوير" الاستعماري:
وقال المعهد، إن عام 2023 شهد قفزة في التمويل الحكومي لمشاريع التهويد في سبسطية، ففي أيار، مايو صادقت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على استثمار 29 مليون شيقل لتطوير الموقع، أعقبها في تموز/ يوليو تخصيص 32 مليون شيقل إضافية في إطار مشاريع تقع بمعظمها في المناطق المصنفة (ج).
وأضاف أنه مع مطلع العام الجاري، تم إطلاق مشروع "متنزه السامرة الوطني"، تحت ذريعة الحفاظ على "التراث اليهودي"، مع رصد ميزانية جديدة تجاوزت 32 مليون شيقل، مؤكدا أن المراقبين يؤكدون أن الهدف الحقيقي لهذه المشاريع ليس الحفاظ على التراث، وإنما "فرض السيادة الإسرائيلية" الكاملة على الموقع، وإعادة صياغة هويته بما يتماشى مع الرواية التوراتية، في مسعى واضح لطمس الوجود الفلسطيني.
سياسات السيطرة العسكرية والقانونية:
وأفاد "أريج" أنه إلى جانب المشاريع الميدانية، صعدت سلطات الاحتلال من سياساتها العسكرية والقانونية، ففي تموز/ يوليو 2024، تقدم أعضاء في الكنيست بمشروع قانون يهدف إلى ضم الآثار في الضفة الغربية إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، ما يعني سحب الصلاحيات من وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، وإخضاع المواقع الأثرية بشكل مباشر للإدارة الإسرائيلية.
كما استولت قوات الاحتلال على نحو 1300 متر مربع من أراضي سبسطية، لإقامة ثكنة عسكرية تطل على أبرز المعالم الأثرية مثل معبد أغسطس وقصر عمري، في خطوة تكشف أن المشروع ليس ثقافيا أو سياحيا بقدر ما هو أمني واستعماري بالدرجة الأولى.
انعكاسات مباشرة على البلدة وسكانها:
وأكد تقرير "أريج"، أن انعكاسات مشاريع التهويد الإسرائيلية على سبسطية لم تتوقف عند حدود الموقع الأثري فحسب، بل طالت الحياة اليومية للمواطنين والاقتصاد المحلي برمته.
فمنذ مطلع عام 2023، تشهد البلدة اقتحامات شبه يومية من قبل المستعمرين بحماية قوات الاحتلال، تتخللها اعتداءات لفظية وجسدية واستفزازات متعمدة داخل الساحة الأثرية وفي محيط البلدة.
وقد أدى ذلك إلى تراجع كبير في أعداد الزوار الأجانب والعرب، وهو ما انعكس مباشرة على مصادر الدخل الأساسية لعشرات العائلات الفلسطينية التي تعتمد على السياحة كمورد رئيسي للرزق.
ولفت إلى أن الموروث الثقافي في سبسطية، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من خمسة آلاف عام ويشمل معابد رومانية وبيزنطية وقصورا ملكية، يتعرض لعملية استهداف ممنهجة، إذ تسعى إسرائيل لطمس الهوية الفلسطينية والعربية للمكان واستبدالها برواية توراتية أحادية، وهذا الاستهداف يتعارض بوضوح مع القانون الدولي، لا سيما اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة (1954)، واتفاقية جنيف الرابعة (1949) التي تحظر على قوة الاحتلال المساس بالتراث الثقافي للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.
أبرز المعالم الأثرية:
وأشار أريج في تقريره إلى أن سبسطية تزخر بكنوز أثرية نادرة، تجسد عصورا متعاقبة من الحضارات الإنسانية، من أبرزها المقبرة الرومانية، وضريح النبي يحيى، ومسجده، كاتدرائية يوحنا المعمدان، قصر الكايد، وساحة البازيليكا التي تعكس عظمة العمارة الرومانية.
كما تحتضن القصر الملكي، والبرج الهيلينستي، ومعبد أغسطس، والمسرح الروماني، وشارع الأعمدة الذي يعد من أوسع الشوارع الأثرية في فلسطين.
وتابع؛ أنه رغم الثراء والتنوع بالآثار في الموقع الحالي، إلا أن التقديرات الأثرية تشير إلى أن نحو 90% من آثار البلدة ما تزال مطمورة تحت الأرض، وتحتاج إلى أعمال تنقيب علمي ومنهجي، هذا ما يجعل سبسطية من أكبر الكنوز الأثرية غير المكتشفة في المنطقة، مع التأكيد أن أهميتها ليس فقط كتراث فلسطيني بل كإرث إنساني عالمي يستوجب الحماية والصون.
دعوة لإنقاذ آثار سبسطية:
وشدد أريج على أن حماية سبسطية ليست مسؤولية المؤسسات الأثرية فحسب، بل هي مسؤولية جماعية وفردية تتطلب جهدا فلسطينيا ودوليا متواصلا، وهو ما بتطلب إلى تكثيف توثيق الانتهاكات والاعتداءات والنداءات الدولية للضغط من أجل حماية الموقع من التهويد والاستعمار، وتعزيز الوعي المجتمعي، خاصة بين الأجيال الشابة، بأهمية حماية التاريخ والذاكرة الوطنية.
كما يتطلب إدراك أن سبسطية ليست حالة معزولة، بل جزء من مخطط استعماري أوسع يشمل مواقع مثل بتير والولجة في بيت لحم، البلدة القديمة في الخليل، والقدس المحتلة، وأحياء مثل الشيخ جراح وسلوان.
وأكد، أن معركة سبسطية هي معركة على الهوية والرواية والوجود، وحمايتها تعني الدفاع عن الذاكرة الفلسطينية المتجذرة في الأرض والتاريخ.
-
ع.ش/ر.ح