غزة 20-10-2025 وفا- سامي أبو سالم
في صالة فرز جثث الشهداء بمستشفى ناصر بخان يونس، جنوب القطاع، جلست الفتاة ندى زغرة على ركبتيها تساعد أمها وأخيها في التعرف على جثة رجل ممددة في كيس بلاستيكي على الأرض، للتأكد ما إذا كانت الجثة تعود لأبيها أم لا.
جميعهم تفحصوا أسنانه وأذنيه وأصابع يديه وقدميه، فوقعوا في مزيد من الحيرة. ثم كشفت الزوجة عن ملابسه للوصول لملابسه الداخلية كدليل أخير للتأكد، حينها أيقنت أن الجثة تعود لزوجها محمد زغرة (48 عاما)، من مدينة غزة، الذي اختفت آثاره قبل عامين.
جلست ندى وأمها جانبا تبكيان بصمت، وانشغل شقيقها في الاتصال بأقاربه لتحضير إجراءات الدفن. ثم استجمعت الفتاة قواها وقالت: "عامين لم نعلم مصير والدي هو حي أم دُفن تحت ركام أحد البيوت أم معتقل."
ولم تخف ندى غضبها من أسلوب "تعذيب العائلات" الذي تمارسه قوات الاحتلال بممارساتهم "السادية" بإرسال جثث الشهداء بدون أسماء ولا أي إشارة تدل عليهم.
"لا نعلم تاريخ ومكان استشهاده ولا كيف استشهد" قالت ندى، ابنة الشهيد، الذي كان يعمل سائقا ويعيل أسرة من 7 أفراد.
وسلمت قوات الاحتلال، عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، حتى ظهر الأحد، 150 جثة لشهداء فلسطينيين كانت محتجزة لديهم لكن بدون أسماء أو أي علامة تدل عليهم، وفقا لوزارة الصحة.
في صالة الفرز زهاء 7 جثث ممددة على أسرة يحيط بكل سرير طاقم طبي للفحص السريع وتمحيص في محاولة تشخيص سبب الوفاة أو أي شارة جنائية أو طبية.
جثث منها معصوبة العينين ومقيدة اليدين إلى الخلف. أحد الجثث عارية تماما وحبل لف حول الرقبة وكأنه تعرض لإعدام، وجلد ببقع مختلفة الألوان، وأخرى تعرضت لبتر في الأصابع، وأخرى بأطراف مهشمة.
في زاوية الصالة الأمامية جثة لرجل مع بقع صغيرة في جهة من الرأس وفتحة في الناحية الأخرى، قال أحد أفراد الطواقم الطبية إنها غالبا تعرضت لإعدام. جثث أخرى برؤوس مهشمة ومنها مكسرة الأسنان وأخرى بفم محشو بالرمل.
تصل الجثث في أكفان بلاستيكية، في شاحنات للتبريد في ظل نقص ثلاجات الموتى، بعضها منتفخ وبعضها في حالة شبه ذوبان وأخرى في حجمها الطبيعي معظمها متحللة لكنها شبه كاملة ومجمدة، وكأنه تم تجميدها بعد أيام من القتل. بعضها بملابس مكتساه بالرمل، وبعضها بدأ يتسرب منها الدم بعد ان خفت وطأة التجميد.
في قاعة جانبية مزودة بشاشة عرض، حضر عشرات المواطنين من ذوي المفقودين يتابعون صور شهداء يعرضها موظف من وزارة الصحة على الشاشة ليسهل عليهم التعرف عليها.
ويُعرض الشهداء كأرقام ثم صور تقريبية للشهداء وأجزاء منهم، الوجه والأسنان والملابس والأصابع وأي علامات فارقة، ليتمكن المواطنون من تشخيص من يخصهم.
هب شاب وقال بريبة "هذا أخي"، لكن بعد أن أحضروا الجثة دخل في حيرة فلم يستطع الحسم ما إذا كان أخيه أم لا.
مدد موظفون جثة لشهيد وقد غابت الملامح وظهرت صغيرة في الرأس والرقبة. وقف الشاب ورفاقه يقلبون جثة الشهيد ويتفحصون اسنانه وملابسه وأطرافه. رأى بقع قاتمة اللون بحجم تقريبا نصف سم طولا، أشار إليها وقال "يبدو أنهم أعدموه عن قرب".
تواصل الشاب، الذي رفض الحديث للصحفيين، مع ذويه كي يساعدوه في التعرف والتأكد لكن دون جدوى.
وعرض صورة لشقيقه مبتسما، كانت مخزنة في الهاتف الخلوي، كي تظهر أسنانه ليقارنها بأسنان الشهيد، لم يستطع الحسم وانغمس في حالة أشبه بالحيرة والاكتئاب.
أكرم أحمد كان يتابع الصور، قال لمراسل وفا: إنه يبحث عن شقيقيه اللذين اختطفهما جنود الاحتلال من بيتهم في منطقة "بئر النعجة" في جباليا شمال قطاع غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024.
وقال: إنه لا يعلم شيئا عن أخويه محمد (35 عاما) والد 4 طفلات، وأمجد (32 عاما). "لا أعرف هل أعدموهما أو اعتقلوهما، وآتي هنا لليوم الثاني ربما يكونا من ضمن الشهداء."
وأشار إلى أنه جاء الأسبوع الماضي لمجمع ناصر الطبي الذي شهد استقبال زهاء 1700 أسير أفرج عنهم الاحتلال لكنه لم يجدهم بين الأسرى المفرج عنهم.
واستغرب أحمد من قوات الاحتلال الذين يرسلون جثثا لأكثر من 100 شهيد بدون أسماء، "هذا سلوك همجي".
وكانت قوات الاحتلال أفرجت عن 1700 أسير فلسطيني من غزة احتجزتهم دون تقديمهم لمحكمة أو أي اجراءات قانونية، ضمن اتفاق إطلاق النار للحرب على غزة,
رائحة الجثث المتحللة تملأ المكان، ونسوة يبكين على أبنائهن وأزواجهن، وشبان يتنقلون بين الصالات، لتفحص جثة ما أو لمتابعة عرض الصور، آخرون يتصلوا بذويهم للحضور والمساعدة في التشخيص.
وقال دكتور أحمد ضهير، مدير الطب الشرعي، إن الجثث تصل من الاحتلال عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدون أي إشارة سوى 6 منها.
وأشار إلى أن هناك جثث تثل معصوبة العينين ومقيدة اليدين إلى الخلف وعليها آثار تعذيب، "أرسلوا 6 جثث بأسماء وتبين أن 2 منها أسماء ومواصفات غير صحيحة"، قال ضهير.
ولفت إلى أنه لا قدرة للوزارة للتشخيص الدقيق بسبب نقص المعدات ومعامل لفحص الحمض النووي (DNA)، وكل ذلك بسبب الحصار الإسرائيلي.
وأضاف ضهير أن العائلات يتعرفون على ذويهم من الملابس والأسنان وعلامات فارقة مسبقة لكن الأمر ليس سهلا.
ولم يستطع أهالي المفقودين التعرف إلا على 25 جثة من أصل 150، وفقا لوزارة الصحة.
امرأة متقدمة في السن كانت في صالة عرض الصور، رسمية قديح، من قرية خزاعة شرق خانيونس جنوب القطاع، قالت إنها تبحث عن ابنها فادي الذي اختفى في السابع من تشرين الأول/ اكتوبر 2023.
"أبني اختفى ثم قصف الاحتلال بيته وقتل زوجته وأطفاله الأربعة في 26 أكتوبر 2013" قالت رسمية، وأضافت أنها لم تستطع التعرف على جثمان ابنها لأن الجثث مشوهة.
وكان مصادر طبية قد أعلنت أن زهاء 9500 مواطن اختفت آثارهم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، منهم شهداء تحت الأنقاض أو لدى قوات الاحتلال أو أسرى أو لم يعرف مصيرهم. فيما قتلت قوات الاحتلال أكثر من 68 ألف مواطن منذ بداية العدوان.
ويأتي تسليم قوات الاحتلال لجثامين الشهداء في إطار وقف إطلاق النار بغزة، الذي وقع في القاهرة برعاية مصر وأميركا وتركيا وقطر، وبدأ حيز التنفيذ الأسبوع الماضي.
ـــــــ
/م.ل