غزة 12-6-2025 وفا- حسين نظير السنوار
الغزيون، منهكون، مثقلون، مغموسون بتعب النزوح وويلات حرب الإبادة والقتل والجوع، يسيرون بخطى متثاقلة يبيعون ما تبقى من مصاغ ذهبي ويستنزفون ما لديهم من بقايا أموال كانوا قد ادخروها ليوم أسود وها قد جاء، يحاولون أن يجدوا ما يسد رمقهم لساعات فقط بأجساد أضناها الجوع ووجوه شاحبة كأن الحياة انسحبت من أجسادهم.
ففي غزة المكلومة الجريحة تبيع النساء مضاغهن لتوفير مصروف لعائلاتهن. فالأطفال في غزة لم يعيشوا طفولتهم وقد كبروا فجأة دون إنذار لهم بأن الجوع والفقر والعوز سترافقهم وترافق عائلاتهم، فآباؤهم لم يألوا جهدًا في توفير ما تيسر لسد جوع بطونهم، فظهرت عليهم ملامح المجاعة وعظامهم بدت ظاهرة. وفي غزة شباب وفتيات فات قطار العمر بهم ولم يتمكنوا من الزواج وبناء حياة حلموا بها منذ صغرهم، وفي غزة لم تعد قواميس اللغة قادرة على وصف ما يعيشون، ولكن كل أملهم أن القادم سيكون أفضل.
يقول المواطن فايز عواجة: "لقد أجبرتنا الظروف الصعبة وحياة الضنك التي نعيشها على بيع ما لدينا من مصاغ ذهبي، بعد أن استنفدنا أموالنا التي كانت بالنسبة إلينا "تحويشة العمر" التي سنتكئ عليها في قادم عمرنا، من أجل أن نوفر لأولادنا وعائلاتنا الطعام والشراب خاصة رغيف الخبز الذي أصبح الآن عزيزًا ومكلفًا إلى حد لم يتصوره عاقل".
وتابع: "لقد استنفدنا ما لدينا من أموال ومضاغ ذهبي، ولم يتبق في حوزتنا إلا خاتم زواج أمي، فآثرنا بيعه والألم يعتصر قلوبنا، بعدما ذهبت ذكريات عمر طويل مع والدي والعائلة امتدت لخمسين عامًا كانت كفيلة بأن ترسم تاريخ عائلة".
"ببيع الخاتم سار في خلدنا وخلال حديثنا مع بعضنا شريط ذكريات أدمع قلوبنا قبل عيوننا، لكن لم يكن باليد حيلة، فنحن بأمس الحاجة إلى المال لشراء الطحين والأرز لنقتات لعدة أيام في ظل مجاعة أنهكت أجسادنا"، يضيف عواجة.
بينما تقول المواطنة أم علاء أبو عودة إن "المجاعة فاقت خيالنا وخيال البشر وتفكيرهم، ولم نجد ما يسد جوعنا وإن وجدناه فيحتاج إلى كثير من المال، بعدما ارتفعت الأسعار بنسب عالية جدًا تفوق في كثير من الأحيان عشرات أضعاف الأسعار الحقيقية، فقد بات سعر كيلوغرام الدقيق يتراوح بين 85-100 شيقل، وكيلوغرام الأرز يبلغ سعره أكثر من 75 شيقلًا، ونحن من أصحاب دخل محدود ولم يعد لدينا أموال لنشتري ما يسد جوعنا، فأُجبرتُ على بيع قرط ذهبي لأشتري به الدقيق لسد جوعي وجوع أطفالي بضعة أيام".
ولم يكن حال المواطن رمزي المدهون بأفضل من سابقه، فهو يعيش أيضًا كباقي الغزيين المجاعة والتشرد وحياة الخيام، ويشير إلى أنه كان يمتلك بضعة غرامات من الذهب كان قد ادخرها لتعليم أولاده في الجامعات، ولكن جاءت الحرب ومعها المعاناة والمهانة والجوع، ما أجبره على بيعها، ليتمكن من توفير مصروفات بناء الخيمة وقليل من الطعام والشراب لعائلته التي تعيش مع أكثر من مليوني مواطن بالقطاع المجاعة والتشرد.
ويقول الصائغ محمد أبو الحسن: "لقد شهدنا خلال الحرب على قطاع غزة إقبالًا شديدًا من المواطنين على بيع مصاغهم الذهبي، ولكن مع اشتداد المجاعة وارتفاع الأسعار الجنوني، ازدادت هذه الحالة وتضاعفت أعداد من يبيعون الذهب".
وتابع أبو الحسن: "أكثر ما شهدناه من بيع الذهب هو الأنواع القديمة ثقيلة الوزن التي زاد عمر كثير منها على الخمسين عامًا، وهو ما كانت عائلات غزية ميسورة الحال تدخره لأيام "سوداء".. ولم أعتقد أن هناك أيامًا أصعب ولا أسوأ ولا أشد سوادا من هذه الأيام التي تعيشها غزة من جوع وفقر وقتل وتشريد وحياة خيام ونزوح".
ويضيف أن الصاغة باتوا يواجهون مشكلة السيولة المالية التي وصلت إلى حد لم يتصوره عاقل، فقد بلغت نسبة "عمولة التكييش" أكثر من 45%، مشيرًا إلى أن ذلك انعكس على حالة البيع والشراء في الأسواق، وأثر في الصاغة وبائعي الذهب، خاصة أن الأوراق المالية المتوفرة أصبحت مهترئة ويصعب تداولها ولم يقبلها التجار، ما يزيد المعاناة والعوز في ظل المجاعة.
وتقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إنه تمت إضافة ساحة قتل جديدة للفلسطينيين، عبر إطلاق النار على المجوعين بغزة، وإن حجم المساعدات الموجود في غزة بسيط للغاية.
وتابعت أن قتل الفلسطينيين المجو،عين في غزة أصبح أمرًا عاديًا، وأن نموذج توزيع المساعدات الإسرائيلي الأمريكي في غزة يُعرّض الأرواح للخطر، ويشتت الانتباه عن الفظائع المستمرة ويهدر الموارد، مؤكدة أن على إسرائيل رفع الحصار والسماح بوصول آمن وغير مقيد لإدخال المساعدات إلى غزة وتوزيعها.
بينما يقول برنامج الأغذية العالمي في بيان، إنه منذ 19 أيار/مايو الماضي لم يتمكن من إدخال سوى كميات محدودة من المساعدات المنقذة للحياة إلى غزة، مضيفًا أنه منذ "استئناف المساعدات" تم إدخال 700 شاحنة فقط مقارنة بـ600 شاحنة أو 700 كانت تدخل يوميًا.
وأضاف البيان أنه لدرء المجاعة يحتاج البرنامج إلى دعم سكان غزة بشكل منتظم وتلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء، وأنه لا يزال الخوف من المجاعة داخل قطاع غزة مرتفعًا للغاية، مشددًا على أن دخول المساعدات يتطلب توفير طرق آمنة للقوافل وتسريع الموافقة على التصاريح وفتح المعابر.
ويشهد قطاع غزة حرب إبادة جماعية شاملة وتجويعا منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، راح ضحيتها عشرات الآلاف من المواطنين بين شهيد وجريح ومفقود، منهم المئات خلال الفترة الأخيرة من منتظري "المساعدات الإنسانية" جنوب مدينة غزة وكذلك في رفح جنوب القطاع.
ـــ
ح.س/ي.ط